أكادير.. رحيل الطبيب جاكوب.. وداعا لنبض إنساني خدم الطفولة في صمت ونزاهة

هبة بريس – عبد اللطيف بركة

غاب الجسد، وبقي الأثر… ترجل الطبيب جاكوب، طبيب الأطفال الفرنسي الذي أحب أكادير وسكنها وسكنته، عن صهوة الحياة، بعدما قضى عقوداً من العطاء في خدمة صحة الطفل وكرامة الأمهات، بروح نزيهة، ويدٍ حانية، وقلبٍ لا يعرف الحدود.

ليس رحيله مجرد خبر عابر في زحمة الأيام، بل هو لحظة حزن نبيل، تختلط فيها الدموع بالامتنان، وتعلو فيها أصوات الدعاء فوق صمت الفقد، فقد عرفته ساكنة أكادير، ليس كطبيب فحسب، بل كأبٍ ثانٍ لأطفالها، وكملجأ أمان لأمهاتهم، حين يضيق بهم الزمن وتضيع بهم السبل.

في عيادته المتواضعة بحي الباطوار، كان يستقبل المرضى من كل صوبٍ وحدب، لا يسأل عن مال أو نسب، بل ينصت أولاً لنبض الطفل، ثم ينصت لقلب الأم، يعرف أن الألم لا جنسية له، وأن الشفاء حق للجميع، كان إنساناً قبل أن يكون طبيباً، وراعياً للروح قبل الجسد.

ما ميز الطبيب جاكوب، ليس فقط علمه، بل إيمانه العميق بالتفاصيل الصغيرة التي تُهملها البروتوكولات الطبية الحديثة، كان الطبيب الوحيد الذي يعترف بعلاماتٍ تراها الجدات دليلاً على “شمّ السرة”، ولا يتعالى على هذا الموروث الشعبي، بل يحيل الأمهات، بكل احترام، إلى “المرأة التي تعالج”، مؤمناً بأن الطب لا يعارض الحكمة، بل يحتضنها بتواضع.

لم يكن ابن هذه المدينة بالولادة، لكنه صار أحد أبنائها بالروح والموقف، جاءها بعد الزلزال المدمّر في ستينيات القرن الماضي، فآواه ترابها وآوى أبناءها، وفتح لهم قلبه وعيادته، وبات ركناً من ذاكرتها الإنسانية،لم تغره الأضواء، ولا تقاعد على كراسي المجد، بل ظل حتى آخر أيامه طبيباً في خدمة من يحتاجه، بسيطاً، خدوماً، وعميقاً في إنسانيته.

واليوم، تودّعه أكادير بحبٍ لا تصنعه الكلمات، بل تكتبه العيون الدامعة والقلوب التي تذكر كيف خفّف آلامها يوماً، دون أن يطلب شيئاً في المقابل.

يمضي الطبيب جاكوب إلى مثواه الأخير، وتبقى سيرته مشعلاً في ذاكرة المدينة، ودليلاً على أن بعض الأجانب يصبحون أقرب من أهل الدار حين تختارهم القلوب.

رحل الطبيب الإنسان، وبقيت القيم،
رحل الجسد، وبقيت البصمة،رحم الله الدكتور جاكوب، وألهم أكادير الصبر والوفاء.



قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى