المغرب ومحيطه البحري.. استراتيجية سيادية تستشرف المستقبل

هبة بريس -عبد اللطيف بركة

في خضم التحولات الجيوسياسية التي يشهدها العالم، يستمر المغرب في تعزيز حضوره البحري، مبرهنًا بذلك على استراتيجيته المتكاملة في بناء قوة بحرية تسهم في تدعيم سيادته الوطنية وتعزيز مكانته في محيطه الأطلسي وبحره الأبيض والمتوسط، وبشكل خاص، يولي المغرب أهمية متزايدة لتعميق ارتباطه بالمجال البحري، وهو ما ينعكس في تصريحات وزير الشؤون الخارجية، ناصر بوريطة، الذي أكد أن “المغرب أمة بحرية وليست مجرد دولة ساحلية”، في إشارة إلى توجيه المملكة استراتيجية البحر نحو تحقيق رؤية متكاملة.

– استراتيجية تاريخية من البحر

على مر السنين، قدم المغرب نموذجًا فريدًا في دمج البحر ضمن استراتيجياته الوطنية، منذ استقلاله في 1956، شرع المغرب في بناء مؤسسات بحرية راسخة، بدءًا من تأسيس البحرية الملكية في 1960، وصولاً إلى إعلان المنطقة الاقتصادية الخالصة في 1981.

هذه التطورات كانت بمثابة حجر الزاوية في تأكيد السيادة البحرية للمغرب، ومنذ ذلك الحين، يواصل المغرب ترسيخ سيادته على مياهه الإقليمية والمناطق البحرية المتاخمة لأقاليمه الجنوبية.

وفي خطوة لافتة، صادق البرلمان المغربي في يناير 2020 على قانونين يهدفان إلى توسيع حدود السيادة القانونية للمملكة لتشمل المياه الإقليمية من طنجة إلى الكويرة، بما في ذلك المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري. وقد أثار هذا التوجه في حينه ردود فعل من طرف إسبانيا وجزر الكناري، اللتين أعربتا عن قلقهما إزاء التداخل في بعض المصالح والمجالات البحرية، خاصة فيما يتعلق بالموارد الطبيعية في قاع البحر.

– التوجه نحو الحوار والتنسيق

ورغم ردود الفعل الأولية، أظهر البلدان قدرة على التكيف مع الوضع الراهن عبر نهج دبلوماسي منفتح على الحوار والتنسيق. هذا التوجه دفع الطرفين إلى فتح مفاوضات تقنية لترسيم الحدود البحرية بشكل يحترم القانون الدولي ويضمن مصالح الطرفين. وقد تجسد ذلك في اعتراف إسبانيا بمغربية الصحراء في عام 2022، ما أعطى زخماً سياسيًا للمسار الدبلوماسي، مع تزايد الانفتاح على تعزيز التعاون البحري بين البلدين.

إلا أن التطورات الأخيرة لم تقتصر فقط على جوانب التفاوض القانوني، بل امتدت لتشمل الاهتمام المستمر للمغرب بتطوير قدراته البحرية العسكرية والاقتصادية. فإلى جانب التقدم في مجال التشريعات، يعمل المغرب على تكثيف استثماراته في قطاع الصيد البحري والطاقة المتجددة، فضلاً عن تزايد الاهتمام بمشروعات التنقيب عن المعادن في قاع البحر. وهذا الاهتمام بالمجال البحري يشكل جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز مكانة المغرب كقوة إقليمية على البحرين الأبيض والمتوسط.

– رهانات البحر في السياق العالمي

على الصعيد الدولي، يعكس هذا التوجه البحري المتنامي للمغرب تموضعه في خضم التحولات الكبرى التي تشهدها القوى البحرية الصاعدة عالميًا، فبينما تواصل القوى الكبرى تعزيز حضورها البحري من خلال بناء الأساطيل وتوسيع مناطق النفوذ البحرية، يحرص المغرب على وضع البحر في قلب استراتيجياته التنموية والسياسية. في هذا الإطار، يمكن اعتبار المغرب نموذجًا لدولة توازن بين الحفاظ على السيادة الوطنية وفتح أبواب التعاون الدولي، مما يتيح لها توظيف موارد البحر لصالح مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية.

في المقابل، يبقى البحر بالنسبة للمغرب مصدرًا غنيًا بالفرص والتهديدات على حد سواء. من جهة، تمثل الموارد البحرية، من طاقة ومعادن، أداة أساسية لتحقيق الأمن الاقتصادي والتنمية المستدامة. ومن جهة أخرى، تمثل التحديات المتعلقة بالسيطرة على تلك الموارد وحمايتها من الاستغلال غير المشروع أحد الأبعاد الاستراتيجية التي تظل في صلب اهتمامات المملكة.

– المغرب في مواجهة تحديات المستقبل

اليوم، يُعد المغرب نموذجًا لدولة تسعى إلى تحقيق توازن حاسم بين أمنها البحري، والنهوض بقوة بحرية متكاملة، تساهم في استشراف المستقبل بتفاؤل. وبينما تتواصل المفاوضات مع الدول الجارة، وخاصة إسبانيا، في إطار ترسيم الحدود البحرية، تظل السيادة على المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة من الأولويات التي تضمن للمغرب وضعًا استراتيجيًا متقدمًا في محيطه.

وفي الوقت الذي يعكف فيه المغرب على تعزيز حضوره البحري، يبقى السؤال المطروح: هل يمكن للمملكة أن تواصل تعزيز هذا الحضور من خلال مزيد من الاستثمارات في القطاعات البحرية، والاستفادة من التحولات الدولية في هذا المجال؟ قد تكون الإجابة في أفق السنوات القادمة، ولكن من المؤكد أن المغرب قد بدأ يضع نفسه على خارطة القوى البحرية الصاعدة.



قراءة الخبر من المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى